
للقاصة السورية: رباب هلال
أرفعُ سماعة الهاتف. أضغطُ بأصابعي أزرارَ قلبك البعيد. يلفُّ الرنين التوجّس ويخفي أنفاسي.
ـ آلو!
هو صوتك أخيراً، فينفلش صوتي بالشّوق، ويزهر صوت الحكايا: “اظهر وبان عليك الأمان”
تُرفع السماعة حيث أنتَ. يرتفع صوتها حرّاً طليقاً:
ـ آلو… آلو!…. آلو؟
رصاصات ثلاث تدكّ القلب، وأغور في اللاّ أمان. يلوك خطوي التائه طول الرصيف. يصفعني الضّجيج، أبواق السيارات، الدخان، الغبار. تمضغني الأسماء مرة تلو أخرى: باسمة، ميسون، ليلى، منى. أو لربما دعيت باسم أحدهم، فأصير ذكراً! وتنذبح أنوثتي بيدي! يدي ذاتها التي رسمت ذات تكوين مختلفٍ، خيطاً دقيقاً أبيض!.
تشقّ أمي ذاكرتَها الرطبة، يرشني الرذاذُ، يلفّني الغمامُ، يعيد تشكيلي دائماً؛ أنثى تعشق الليل والمطر. وأنهمر في تفاصيل السّرد، تهيم أذناي وكأنما أسمعها تحكي:
ـ “كانت العتمة. وكان المطر. العالم سماء وماء ينصت لوقع خطوك القادم، هائماً فوق الماء.
وقف أبوك في الباب لاختراق المطر والديجور. كان لوقع خطوك إيقاع يمزقني. يتشلع صوتي على ظهر أبيك يدفعه للأمام، والبرق والرعد يفجران عتبة البيت، وينأى الأمام والمسافة بينه وبين الدّاية.
كان ظهورك يخلخل عظامي، يتكسّر ظهري ويتشظّى، تتمزق أحشائي، والمطر كان يزمجر عاصفاً بالألم داخلي، ويؤرجحني ما بين نفَسٍ يدنو وآخر ينأى.
ويشقُّ أبوك المطرَ والليلَ، وتشقّينني. كنت وحدي، وجئت دون جوقة. ما فعلته الدّاية أنها قطعتك عنّي وربطت سرّتك، واستسلمت لأرجوحة الحياة والموت”.
بين هذيان أذنيّ وذاكرة أمي الرطبة، أمدّ يدي لسرّتي، ولا أزال أخفي سرّي، أكتمه حتى عنها! كيف لي أن أقول لها: قُطعتُ عنك، لكن سرّتي لم تُربط! فالدّاية كانت مبلّلة بالمطر والنّعاس، وبولادات كثيرة حقنت أصابعها بالروتين… الروتين! أجفل لصوت شاحنة ضخمة تعبرني، يمخر فيّ عباب دخانها. كانت شاحنة قمامة. في عزّ الظهيرة، ترسل البلديات شاحناتها للملمة القمامة ولملمة نقاء جلودنا! أفٍّ… من البلديات والروتين!
* * *
وأنتظرك دائماً. وكي لا يصير انتظاري روتيناً، أعبث به ثم ألوّنه، فانحدر في الشوارع، بين البيوتات. أبدو نافرة على صدر المدينة.
أتسلّى برؤية المحلاّت التجارية والمكاتب العقارية المتكاثرة مثل سفاد القطط! و أتسلّى بعدِّ السيارات، وبين كل عابرة وأخرى، أقول: سيأتي… لن يأتي… سيأتي.. لن يأتي… وأخلّي الرّجاء معلقاً على آخر سيارة تعبر قبل سطوع الشارة الحمراء، وأجهد في أن أنهي بـ: سيأتي!
فأمرّ على البقاليات وأشتري مستلزمات الطعام. كنا نحب التفاح. كما أحب أن ألمع التفاحات، أدخل إصبعي عند العنق لألمس أنها مربوطة وأشعر بالأمان. وإلاَّ فكيف تعرف الدودة مكمنها الدائم وتوغل في أشهى التفاحات حجماً ولوناً ورائحة!
وبدوْرك أيضاً، كنت تدخل إصبعك في سرتك. عميقاً كانت تبحث عن حدٍّ أو انتهاء، عبثاً! تبتسم لغرابتها، دون أن تعلّق أو تسأل. وبدوْري أكتم السِّر بالمزاح، ثم نضحك أكثر، نتعبّأ بالصّخب والحب، ونكتظُّ بالأحلام، فتتابع أنوثتي رسم الخيط الدقيق الأبيض.
* * *
مرة أخرى تمطر ذاكرة أمي. فينداح الحب منها عابقاً بتلك الليلة:
ـ “قال أبوك: نسمّيها عشتار. فضحكتُ. ما هذا الاسم؟! وسرعان ما تخيّلتُ الأولاد ساخرين وهازئين وهم يعيّرونك: عشٌّ وتار… عشٌّ وتار…”
ولا تزال أمي تضحك. أبحث في خطوط عينيها عن طرفِ خيط أفلت منذ ضياع بعيد.. كان هناك مجرد شرخٍ!
وكان باستطاعتي التخمين، أنه لو لا وهنُها تلك الليلة لسخر أبي منها كعادته، وقد ظلّ بخيلاً عليها بالشرح كعادته أيضاً! أبي الذي لا يزال يزداد عشقاً لعشتار، كلما ازداد ندماً على زواجه من أمي!
وكأنما أراه، وقد راح من جديد، يقلِّب الأسماء والذاكرة والتاريخ، يرنو إليَّ كتلة لحمية.
(بنت، كما أكدت الدّاية، وبعد أسبوع ربما كما حدثني مرة، أعلن اسمي الذي لم اسمعه آنذاك، فقد كنت لا أزال مغلّفة بروتين الدّاية!
* * *
ما بين الحب والسخرية خيط دقيق كنت تمرره بشعري وتعبث به، همست لي:
ـ كان على أبيك أن يسمّيك ماجدولين الهائمة بين ظلال الزيزفون، أو جولييت مثلاً، لا.. لا.. إيمّا بوفاري، آنّا كارنينا، إلى أخر الأسماء التي تغلف رومانسيتك التافهة. وتؤكد ضاحكاً: والآفلة!
كدت أسألك: أحقاً هي آفلة؟ لكنني خبّأت السؤال. كم أحتاج واقعيتك!
وأحبك وتحبني… ندحرج ثرثرتنا في شوارع المدينة، وفي مساءاتها التي تخنقها أعمدة الكهرباء. أتشهى قمراً أشفق عليه معلقاً في السماء، مكتوماً نوره، خلف فضية أشبه بإطار معدني صغير!
لو تنقطع الكهرباء، الأسلاك، الهواتف، لو تنقطع أحلامُ أصابعي بفتح أزرار أمان صدرك، لو أرفع طاقية التخفي، (فأظهر وأبان)، ويزهر اسمي على شفتيك، أو ينعقد زرّ وردة في قلبك، وينعقد شوقي لمرة واحدة بالأمان!
لماذا تبدو كل الأشياء مفككة، غير مربوطة مثل سرّتي؟!
تتفكك ذاكرتي وأسئلتي، بينما تعبث أصابعي بسرّتي التي نسيها نعاس الدّاية وروتين أصابعها! لماذا لم تنس الدّاية أن تسكب الطِّشت المليء بمزيج جسدينا الأخير، أمي وأنا، ويروح مع المطر!
كدت أشرح لأمي سبب عشقي الحقيقي للمطر. لكني خشيت أن يكون لذلك طعم مرٌّ أضيفه إلى مراراتها التي كانت تصبها دعاء وصلوات فوق رأسي، تسكبها مع الماء الممزوج بتعاويذ المغربي، الذي كان يمر بضيعتنا بين هلّة وأخرى، كاشفاً الأسرار، ضارباً بالأقدار السّود، بأوراقه المثلثية المربوطة على السر العظيم، وعلى زوج تتمناه أمي ليكون لي طفلٌ! أشفق عليها، وأحني رأسي للماء والدعاء والخوف، ويروح رفضي مع الماء ولا يروح، وأنا أسمع
صراخ جنيني وهو يتقلّب بين أصابع روتين الدّاية وروتين البلديات!
* * *
كانت عمتي، تترك بيتها الخاوي وزوجها العقيم، وتأتينا كي تلملم طفولتنا بين أصابعها وتخبئها بين القلب والخاصرة، فبطنها كان لابد مشغولاً بحلم أصابع صغيرة ستخرمش لها وجههاً وثدييها وتنكش لها شعرها، ذات أذن ورحمة من الله، كما كانت تردّد دائماً.
وحين كانت تحمّمني، كانت تزيد من رغوة الصابون بين فخذيّ، ومعها كانت تزداد رغوة دهشتي الطفولية
وتظل تضحك لوحدها، وهي تصبّ الماء، ثم تلفّني بالمنشفة والقبل و(النّعيمان). ولم أكن أفهم أو أنظر بين ساقيّ لأرى! لكن رأسي الصغير كان يحلو لـه أن يرسم عشاً مليئاً بالعصافير.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أعشق العصافير، وهي تغرّد في الأعالي، وتملأ بأعشاشها الأشجار وزوايا السطوح.
كنت أحنو على أعشاشها التي لها وجه عمتي، وأتحمّل الصّفعات والتّهديدات إزاء تطييرها من أقفاصها. وأظل أفتح لها الأبواب خفية.
* * *
ـ آلو.. آلو! صمت.
ويعربد اختفائي في فضاء الروتين. (أخربطه) ثم أعيد ترتيبه. لذلك اشتريت ألبوماً. ورحت أصنّف الصور:
صورة التخفي الأولى: أنا أطيِّر العصافير من أقفاصها.
الثانية: أراني أخبئ الكتب غير المدرسية تحت الوسادة، ومن ثمّ الكتب المخرّبة والحرام، كما ذكر والدي وجدي الشيخ! صورة أخرى أضعها مقابلها، وأنا أخبئ أول رسالة حب أرسلها لي زميلي في المدرسة، ورغم ذلك نكشتها أمي، طار صوابها، وطارت أصابعها تجرني من روحي.
أقلب صفحة أخرى وأضع صورة لي وأنا أخبئ أناشيد لفظها شعراء مع آخر أنفاسهم وراء أبواب موصدة! في المقابل، أضع صورتي وأنا أخفي بعض المنشورات التي أشاروا إليها إنها محظورة. وأتعجب الآن لماذا! فهي لم تكن أكثر من وطن للحلم! تحتها، أضع الصورة التي أوجعت والديّ حدّ البكاء، ودفعتني للتخفّي زمناً بعد افتضاح أمري!
تفاجئني صورة أخرى، لا أذكر متى وأين وكيف صورتها، بعضها كان لأقفاص مغلقة، وتغريد ذبيح وأعشاش موغلة في الخواء.
الصورة تزداد، أؤجل الأمر لحين آخر، وأخبّئ الألبوم بين جنبات الروح وفي دهليز سرّتي المفتوحة.
* * *
ومرة أخرى، أضغط بكل ثقل الشوق، تترقّم الروح بأزرار صدرك. أردت أن أسكب لك صوت فيروز، لتسكب سخريتك التي أحتاج. لكنّ الصوت ظلّ حبيس فضاء البيت، أدعه يلوّن الخواء: “طلّ وسألني إذ نيسان دق الباب، خبّيت وشّي وطار البيت فيّ وغاب”.
أضع السمّاعة، أخبئ وجهي، رأسي، جسدي، ويوغل البيت في عناده ولا يطير. وحدي أتخفّى! لو يحدث أيّ شيء! لو تختفي الهواتف، لو يختفي سمعي، وأنت ترطن بالأسماء كلّها عدا اسمي، أغبطها وهي تصخب على شفتيك تحلّق حولك، وحولها، وحول أطفالك، ملفّعة بالأمان وهي (تظهر وتبان). وأجدني مكتومة! أجل مكتومة!
تمدُّ أصابعي وجعها، تقطع أسلاك الهاتف. أحمل حقيبتي، وأهرع إلى الشوارع. أمرّ على كلّ الذين أعرفهم سليم بائع الفطائر، جميل المكوجي، وعلى عصرونية باسمة، وصيدلية انطونيت، سلمى صاحبة المكتبة، جميعهم يعرفونني ويردّون على تحيتي بأخرى مكلّلة باسمي. وقبل أن يستقبلني الشارع الثاني، أفتح حقيبتي، أمسك بطاقة هويتي، أقرأ اسمي، اسميْ والدي، مكان وتاريخ ولادتي، علاماتي الفارقة، وبصمتي.
تنفلش ابتسامتي بالأمان، فرح عينيّ يعوم تجاه الأمهات غزيرات الأطفال، وعلى زغب رؤوس الأطفال مثل عصافير، أبتسم. تطول ابتسامتي، تجتاز طول الأرصفة، تخترق الصخب والغبار. ولا تزال تطول وترق كرقة الخيط الأبيض الدّقيق المتصاعد من سرّتي المفتوحة إلى الأمداء اللاّ متناهية….