Uncategorized


وقد يقول قائل أن الموت هو الموت، لكن الموت الأسود عبر الوباء أسقط بيد العلم والحضارة وافتضح الشعارات الإنسانية الجوفاء، وخلع ورقة التوت الأخيرة عن سدنة العدل الإلهي وعن متزعمي الأديان، وعن أفكار مكرسة كالثواب والعقاب وأطلق عورات البشرية وعرّى عجزها في سباقها المحموم نحو الخلود.ناهيكم عن افتضاح حجم المستثمرين بالموت والاسترزاق، ليس من خلال استحداث الوباء بل من خلال تصنيع وترحيل الهلع و بأهداف ربحية ليجثم على صدر البشرية قاطبة.
لقد اجترح الوباء له عهدا جديدا من خلال سطوته وعبثيته، فلم يعد متاحا لأحدنا أن يردد مع زهير بن سلمى (سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشُ ثَمَانِينَ حَوْلاً لا أَبَالَكَ يَسْأَمِ ) لأن الموت هنا ليس موتا طبيعيا كما نظّر له الفلاسفة والكتاب والمتدينيون، بل اقتلاعا قسريا من الحياة واحتطابا جائرا لروح الإنسان وطاقاته.
ليس الموت واحدا لأنه هنا عبر الوباء ولمكره الشديد لا يشهر صافرته وينهي الجولة لصالح أحد الصديقين اللدودين، وإنما يستمرئ اللعبة كسجان لئيم، ويطيل أمد عذاباتنا وترقبنا لمآلاته ليتركنا عالقين بين حافتي الموت والحياة، الصبر أو الرغبة بالخلاص، الإيثار تجاه حماية الآخر أو الأنانية بانحيازها الأعمى، والأكثر حظا منا ولهبة غامضة( لا نعرف مدى نعماها أو وبالها علينا )يتمسك بحبل تهرأت أطرافه لكثرة ما تألمنا وأهمَلَنا كما أهمل الكثيرين من قبلنا نسميه القدر، قدر يخفف لهجته عبر ممرات عبرها أسلافنا ونائبات فتتت قلوبهم، نتمسك به ليس ضعفا فينا بقدر ما هو رغبة في أن تهجع نفوسنا وتقر أرواحنا بالفقد.
وإذا ما تمرسنا بالموت المجاني والرحيل بدون مسوغات أو مقدمات سيأخذ العطب شكلا آخر أبعد من الخدر وموات الأحاسيس، شكلا لا علاقة للقدر به وغير مدان بجريمته، حتى الزمن يتبرأ منه ويلقي على الضحية نظرة الوداع، إنه استساغة الموت وانحسار العاطفة محمولان على عربة يجرها الهلاك، لنكابد في قسوتهما ووحشيتهما زمنا قبل الانزلاق إلى مثوى أخير، وكم يكون فوات العاطفة وانحسار الرحمة رحيما أمام النفاذ والتقرن اللذين يصلان بإنسان من لحم ودم وعاطفة إلى درك اللامبالاة والجحود بكل شيء، كأن يصبح أحدنا مشروعا يوميا لجنازة قادمة أو هدفا محتملا للنفوق بعيد عناق أبوي أو ملامسة عابرة، أو أن يصبح جسده نُزلا متداعيا لزائر محصن بعد إقامة ودية، أن تغدو جسور التواصل الإنساني مدعاة للنفور والريبة والهلع، ومحفوفة بالتهلكة، وتغدو فكرة الحياة بمجملها محاولة للنجاة من الموت بل للنجاة من الحياة نفسها، كأننا مقبلون على حقبة للاغتراب النفسي والوجداني والتوحد للتعايش مع العالم الجديد، حقبة أشبه ما تكون بأن يعيش الغدر والحب معا في منزل الزوجية كشريكين متلازمين، كأن يعقد السلم والحرب صفقة بينهما،يرتادان خندقا واحدا ويسرّان لبعضهما عن الخيانات المحتملة والأسلحة المحرمة، يتسامران ويشربان نخب حتف منتظر لأحدهما أو كليهما أو لمن تحت لوائهما في كأس تلوثت بالعار تفوح منها رائحة النتن والخيانة والرخص البشري.
كأن تشعر بالموت ينام جانبك صديقا ماكرا تجد نفسك مضطرا لمساكنته وأنت تعلم بنفاقه ومداهنته لك، تسكت عن أحابيله المتكررة، ولا شفيع لك حتى لو تنازلت له عن سريرك أو تلحفت معه غطاءا مشتركا، يظل يناورك، فتحاول سحب الغطاء تجاهك ولطول إقامته في فراشك تصبحان عاريين تماما، تنسيان الخصومة ويمارس عليك بكل وقاحة وفجور ساديته، هو لرغبة في نفس سيده، وأنت (لمازوخيتك) ولخوفك من جبروته، وكأنك شهرزاد تهب شهريارها كل الأغطية والفراش والمسوّغات والملذات وليأخذ ما شاء من الدفء والوعد والوفاء والذكريات كلها شريطة أن ينام وتتفرغ لأحلامك وأيامك الآتية .
فنحن لا نريد من الموت سوى نسيانه أو تناسيه، أو على الأقل أن يتركنا نعيش الأيام المرصودة لنا وفق ما تخولنا آلة الجسد الآيلة إلى الذبول، أن نحيا أوقاتا لا نشعر به جاثما على صدرنا، شرها للنيل منا وللتنكيل بأجسادنا وتصيد أعمارنا وزعزعة هناءتنا.
فالميتون أقل معاناة منا، إذ لا يحتاجون سوى دماغ توقف عن النشاط فجأة أو مضخة تصلبت شرايينها من ضخ الدماء والعواطف المستهلكة، وأعلنت استقالتها من مهمة السريان واللهاث اليومي، بعد أن تورمت من وجبات الحب المعلبة، امتلأت جيوبها بالتقرحات والهواء الفاسد، لتبصقنا خارج عالم الجسد المنكوب إلى عالم أكثر سكينة ورأفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى